نشرت شبكة الـ “سي إن إن” الأمريكية مقالاً تحليلياً بقلم الباحثة والصحافية الاقتصادية الصينية “لورا هي” بعنوان: “اقتصاد الصين في مأزق” تحدّثت خلاله عن الأزمات والتحديات الاقتصادية التي تغلبت عليها الصين سابقاً مقارنةً بما تواجهه بكين حالياً من صعوبات تجعل من الصعب على الأخيرة الفوز بفرص شبيهة بتلك التي حظيت بها الصين في أعقاب أزمتَيْ الانهيار الاقتصادي العالمي عام 2008 وأزمة إغلاقات “كوفيد”, حيث عرضت “هي” من خلال المحاور الثلاثة التي جاءت في تحليلها أهم المشاكل التي ستمنع الصين -بحسب تقدير الكاتبة- من النهوض وتجاوُز أزماتها الاقتصادية الحالية.
نص الترجمة:
لطالما كانت الصين مُحرِّك النمو العالمي، لكن في الأسابيع الأخيرة، أثار تباطُؤها الاقتصادي قَلَق القادة الدوليين والمستثمرين الذين لم يعودوا يعتمدون عليها كدرع واقٍ من الضعف الاقتصادي في أماكن مختلفة من العالم، في الواقع للمرة الأولى منذ عقود من الزمن، أصبح الاقتصاد الثاني في العالم هو المشكلة في حدّ ذاته.
تراجع مؤشر هانغ سنغ في هونغ كونغ (HSI) يوم الجمعة الماضية بعد أن سجّل تراجُعاً أكثر من 20% من أعلى ذروة له كان قد وصل إليها في كانون الثاني/ يناير، في الأسبوع الماضي هبط اليوان الصيني إلى أدنى مستوياته منذ 16 عاماً، مما دفع البنك المركزي للدفاع عن العملة بشكل كبير عن طريق تحديد سعر أعلى بكثير مقابل الدولار من القيمة السوقية المقدَّرة.
المشكلة هي أن النمو توقف بعد أن تم تسجيل نشاط سريع في وقت سابق من هذا العام بعد رفع قيود كوفيد، في وقت كانت الأسعار آخِذة في الانخفاض، إلا أن أزمة العقارات تفاقمت أكثر، وأصبحت الصادرات في حالة ركود، لقد أصبحت نسب البطالة بين الشباب مرتفعة للغاية لدرجة أن الحكومة توقفت عن نشر البيانات التي تتعلق بتلك النسب.
ومما زاد الطينَ بلّةً أن شركة بناء منازل كبرى وشركة استثمارية بارزة تخلّفت عن سداد مستحقات مستثمريها في الأسابيع الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى تجدُّد المخاوف من أن يؤدي التدهور المستمر في سوق الإسكان إلى زيادة المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي.
وكان الافتقار إلى التدابير الحازمة لتحفيز الطلب المحلي والمخاوف من انتشار العدوى سبباً في إطلاق جولة جديدة من احتمالات تراجُع النمو، حيث خفضت العديد من البنوك الاستثمارية الكبرى توقُّعاتها للنمو الاقتصادي في الصين إلى أقل من 5%.
وكتب محللو UBS (وهو مصرف استثماري سويسري متعدد الجنسيّات وشركة خدمات مالية تأسّست في سويسرا) في مذكرة بحثية يوم الاثنين: “لقد قمنا بتخفيض توقُّعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين مع تعمُّق الانكماش العقاري، وضعف الطلب الخارجي بشكل أكبر، وكان دعم السياسات أقل من المتوقَّع”.
وكان الباحثون في نومورا(Nomura) ومورجان ستانلي (Morgan Stanley) وباركليز (Barclays) قد قلَّصوا توقُّعاتهم سابقاً، وهذا يعني أن الصين قد تفشل بشكل كبير في تحقيق هدف النمو المتوقع رسمياً الذي يبلغ “نحو 5.5%”، وهو ما يُشكِّل إحراجاً للقيادة الصينية في عهد الرئيس شي جين بينج.
إن الأمور الآن تختلف كثيراً عن الانهيار المالي العالمي الذي حدث في عام 2008، عندما أطلقت الصين أكبر حزمة تحفيز في العالم، وكانت أول اقتصاد رئيسي يخرج من الأزمة، كما أن ما يحدث الآن هو أيضاً مختلف عما حدث من تراجُع في اقتصادات العالم خلال الأيام الأولى للوباء، وعندها كانت الصين الاقتصاد المتقدم الرئيسي الوحيد الذي تمكَّن من تجنُّب الركود، إذاً ما الخطأ الذي حدث؟
مشاكل الملكية
يعاني الاقتصاد الصيني من حالة ركود منذ نيسان/ إبريل، عندما تلاشى الزخم الناتج عن البداية القوية لهذا العام، لكن المخاوف تزايدت هذا الشهر بعد التخلف عن السداد من قِبل شركة كونتري غاردن (Country Garden )، التي كانت في السابق أكبر مطوِّر في البلاد من حيث مبيعات العقارات، وشركة تشونغ رونغ ترست (Zhongrong Trust)، وهي شركة ائتمانية كبيرة.
التقارير التي تفيد بأن شركة كانتري غراند (Country Garden) قد تخلَّفت عن سداد مدفوعات الفائدة على سندات بالدولار الأمريكي أثارت ذعر المستثمرين، وأحيت ذكريات (إيفرغراند) Evergrande، الذي كان تخلُّفها عن سداد ديونها في عام 2021 بمثابة إشارة إلى بداية الأزمة العقارية.
وبينما لا تزال شركة إيفرغراند تخضع لإعادة هيكلة الديون، أثارت المشاكل في كانتري غاردن مخاوف جديدة بشأن الاقتصاد الصيني.
وطرحت بكين مجموعة من التدابير الداعمة لإنعاش سوق العقارات، لكن حتى الاقتصادات الأقوى تترنّح حالياً مما ينذر بتخلفهم عن السداد، وهذا بدوره يسلط الضوء على التحديات التي تواجهها بكين لاحتواء الأزمة.
وفي غضون ذلك، يبدو أن العجز عن سداد الديون لدى شركات التطوير العقاري قد امتدّ إلى صناعة الائتمان الاستثمارية في البلاد والتي تبلغ قيمتها 2.9 تريليون دولار.
فشلت تشونغ رونغ ترست، التي أدارت أموالاً بقيمة 87 مليار دولار لعملاء من الشركات والأفراد الأثرياء، في سداد سلسلة من الديون المرتبطة بالمنتجات الاستثمارية لأربع شركات على الأقل، تبلغ قيمتها حوالَيْ 19 مليون دولار، وفقاً لبيانات الشركة في وقت سابق من هذا الشهر، حتى أن المتظاهرين الغاضبين احتجوا مؤخراً خارج مكتب الشركة الائتمانية، مطالبين بدفع أموال مقابل المنتجات ذات العائد المرتفع، وفقاً لمقاطع الفيديو المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية.
وقال جوليان إيفانز بريتشارد (Julian Evans-Pritchard)، رئيس قسم الاقتصاد الصيني في شركة كابيتال إيكونوميكس (Capital Economics): “إن المزيد من الخسائر في قطاع العقارات قد تمتد إلى عدم الاستقرار المالي على نطاق أوسع”.
وأضاف: “مع فرار الأموال المحلية بشكل متزايد إلى السندات الحكومية والودائع المصرفية الآمنة، قد تواجه المزيد من المؤسسات المالية غير المصرفية مشاكل في السيولة”.
ديون الحكومة المحلية
ومن المخاوف الرئيسية الأخرى ديون الحكومات المحلية، التي ارتفعت إلى حدّ كبير بسبب الانخفاض الحادّ في إيرادات بيع الأراضي بسبب تراجُع العقارات، فضلاً عن التأثير المتبقي لتكلفة فرض عمليات الإغلاق الوبائي.
إن الضغوط المالية الشديدة التي شهدناها على المستويات المحلية لا تفرض مخاطر كبيرة على البنوك الصينية فحسب، بل إنها تضغط أيضاً على قدرة الحكومة على تحفيز النمو وتوسيع الخدمات العامة.
وكشفت بكين عن خطوات تدريجية مطّردة لتعزيز الاقتصاد، بما في ذلك تخفيضات أسعار الفائدة وتحرُّكات أخرى لمساعدة سوق العقارات والشركات الاستهلاكية، لكنها امتنعت عن القيام بأيّ تحركات كبيرة، وقال اقتصاديون ومحللون : إن السبب في ذلك هو أن الصين أصبحت مثقلة بالديون لدرجة أنها لا تستطيع تحفيز الاقتصاد كما فعلت قبل 15 عاماً، خلال الأزمة المالية العالمية.
في ذلك الوقت طرح القادة الصينيون حزمة مالية بقيمة أربعة تريليونات يوان (586 مليار دولار أمريكي) للحدّ من تأثير الأزمة المالية العالمية، لكن التدابير التي ركزت على مشاريع البِنْية التحتية التي تقودها الحكومة، أدت أيضاً إلى توسُّع ائتماني غير مسبوق وزيادة هائلة في ديون الحكومات المحلية، والتي لا يزال الاقتصاد يكافح للتعافي منها.
وقال إيفانز بريتشارد: “على الرغم من وجود عنصر دوري في الانكماش الحالي يبرر المزيد من التحفيز، يبدو أن صُنّاع السياسات يشعرون بالقلق من أن سياساتهم التقليدية ستؤدي إلى مزيد من الارتفاع في مستويات الديون التي قد تُلحق الضرر بهم في المستقبل”.
وفي يوم الأحد، أكد صُنّاع السياسة في بكين مجدداً أن إحدى أهم أولوياتهم هي احتواء مخاطر الديون النظامية في الحكومات المحلية، وتعهد بنك الشعب الصيني والهيئة التنظيمية المالية والهيئة المنظمة للأوراق المالية بالعمل معاً لمواجهة هذا التحدي، وفقاً لبيان صادر عن البنك المركزي.
التراجُع السكاني
علاوة على ذلك تواجه الصين بعض التحديات طويلة المدى، مثل الأزمة السكانية، والعلاقات المتوترة مع الشركاء التجاريين الرئيسيين مثل الولايات المتحدة وأوروبا؛ فقد انخفض معدل الخصوبة الإجمالي في البلاد، وهو متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة خلال حياتها، إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 1.09 في العام الماضي، حيث كان سابقاً 1.30 قبل عامين فقط، وفقاً لتقرير حديث صادر عن موقع Jiemian.com المملوك للدولة، نقلاً عن دراسة من قِبل وحدة تابعة للجنة الصحة الوطنية.
وهذا يعني أن معدل الخصوبة في الصين أصبح الآن أقلّ حتى من نظيره في اليابان، وهي الدولة المعروفة منذ زمن طويل بمجتمعها المتقدم في السن.
وفي وقت سابق من هذا العام أصدرت الصين بيانات أظهرت أن عدد سكانها بدأ في الانكماش العام الماضي للمرة الأولى منذ ستة عقود، وقال محللون من وكالة موديز لخدمات المستثمرين في تقرير بحثي الأسبوع الماضي: “إن التركيبة السكانية المتقدمة في السن في الصين تمثل تحدِّيَات كبيرة لإمكانات نموّها الاقتصادي”.
ومن الممكن أن يؤدي انخفاض المعروض من العمالة وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية والاجتماعية إلى عجز مالي أوسع نطاقاً وزيادة عبء الديون، ومن الممكن أيضاً أن يؤدي صغر حجم القوى العاملة إلى تآكُل المدّخرات المحلية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وتراجُع الاستثمار، إضافة إلى أن “الطلب على الإسكان سينخفض على المدى الطويل”.
وقال إيفانز بريتشارد: إن التركيبة السكانية -إلى جانب تباطُؤ الهجرة من الريف إلى المناطق الحضرية والانقسام الجيوسياسي هي “بِنْيويّة بطبيعتها” وخارجة إلى حدّ كبير عن سيطرة صُنّاع السياسات، وإن “الوضع يشير إلى أن اتجاه النموّ انخفض بشكل كبير منذ بداية الوباء، ويبدو أنه سيتراجع أكثر على المدى المتوسط”.
المصدر: صحيفة أحوال العالم