أخبار

ثورة تكنولوجية خفية في الصين

العام 2007، بدأت شركة “أبل”، بتصنيع هواتف “آيفون” في الصين. وآنذاك، عُرفت تلك البلاد بقواها العاملة الرخيصة، أكثر منها بإنتاج وسائل تكنولوجيا عالية ومنمقة.

وفي تلك الحقبة، لم تكن الشركات الصينية قادرة تقريباً على إنتاج أي من المكونات الداخلية لهواتف “آيفون”، فعمدت إلى استيرادها من ألمانيا واليابان والولايات المتحدة، وانحصرت مهمة الصين عموماً، في مجال تصنيع هذه الهواتف، بتجميع مكوناتها داخل معامل شركة “فوكسكون” في شينجين، ما مثل أقل من أربعة في المئة من كلفة القيمة المضافة.

وقد شهد الوضع تغييراً جذرياً مع حلول عام 2018، إبان ظهور الخليوي “آيفون إكس”. وحينها، لم يعد نشاط العاملين الصينيين، محصوراً بتجميع معظم هواتف “آيفون”، إذ أصبحت الشركات الصينية ضالعة بإنتاج عدد كبير من المكونات الداخلية العالية التقنية في هذه الهواتف، بما في ذلك القطع السمعية، ووحدات الشحن، وعلب البطاريات، بالتالي احترفت الشركات الصينية التكنولوجيات المعقدة. واكتسبت قدرة على تصنيع منتجات بنوعية أفضل من منافسيها الآسيويين والأوروبيين. وقد تسارع هذا النمط مع الأجيال الجديدة من هواتف “آيفون”. واليوم، أصبحت شركات التكنولوجيا الصينية مسؤولة عن أكثر من 25 في المئة من كلفة القيمة المضافة في تلك الهواتف.

ومع أن هاتف “آيفون” يشكل حالة فريدة باعتباره أحد الأجهزة الرقمية الأكثر دقة وتعقيداً في الوجود، بسبب اعتماده على مجموعة استثنائية من التقنيات، إلا أن توسيع نطاق عمله في الصين يحمل أبعاداً أكثر عمقاً من ذلك. ففي غالبية المنتجات التي تصنعها، لم تعد الشركات الصينية تكتفي بتجميع المكونات الأجنبية الصنع، بل انتقلت إلى مرحلة باتت تبتكر فيها تقنيات متطورة، بالتالي إلى جانب هيمنتها على سوق تجهيزات الطاقة المتجددة، اكتسبت الصين اليوم مكانة ريادية في مجال التكنولوجيات الناشئة على غرار الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، حتى إن تلك النجاحات أدت إلى زعزعة أسس المفهوم السائد بأن الريادة العلمية تترجم بصورة حتمية إلى إمساك بزمام الريادة في الصناعة. ومع أن مساهمات الصين لا تزال خجولة في مجالي البحوث الريادية والابتكار العلمي، فقد نجحت هذه الدولة في توظيف معرفتها بالآليات العملية، أي قدرتها على تطوير قطاعات صناعية جديدة كاملة، كي تحرز التقدم في المنافسة مع الولايات المتحدة، ضمن مجموعة متزايدة من التقنيات التي تحوز أهمية استراتيجية.

تنفيذيون أميركيون منسيون في شركات الرقاقات الصينية بعد الحظر الأميريكي.

المصانع الصينية تدفع بالروبوتات وسط تقلص القوى العاملة

مع تصاعد المنافسة مع بكين، قررت حكومة الولايات المتحدة تقييد الصين ومنع نفاذها إلى وسائل التكنولوجيا الغربية الأساسية، واستمرت في ترسيخ تقليدها الراسخ في مجال الابتكارات العلمية. واستناداً إلى ذلك، فرضت إدارة بايدن عام 2022 قيوداً جديدة واسعة النطاق على بيع تكنولوجيا الرقاقات الإلكترونية المتقدمة الغربية للشركات الصينية، بالترافق مع تقديم الدعم للتكنولوجيا الأميركية عبر إقرار “قانون الرقاقات الإلكترونية والعلوم” CHIPS and Science Act المدعوم بتمويل مقداره 280 مليار دولار. ومن شأن هذا القانون، إلى جانب “قانون الحد من التضخم” Inflation Reduction Act، أن يساعد الولايات المتحدة كثيراً على استعادة بعض تفوقها في مجال إنتاج أشباه الموصلات وتجهيزات الطاقة المتجددة. في المقابل، يشير استمرار تقدم المهارة التقنية للشركات الصينية إلى أن هذه المقاربة ربما تغفل مشكلة أساسية أكثر أهمية، تتمثل في أن نهوض الصين لم يحصل كنتيجة حصرية لاستنساخ أفكار شركات الغرب وسرقتها، وكذلك لم يعتمد على الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم. فبصورة وازنة ومؤثرة، تتمثل أحد أكبر محفزاته بالتحسينات التي أدخلت على القدرات التصنيعية الصينية ذاتها التي اكتسبت بفضل القوى العاملة الصينية الكبيرة والمتمرسة تقنياً. وقد بدأت مواطن القوة هذه تتجلى للعيان في رد الصين على القيود الأميركية المفروضة على الرقاقات الإلكترونية في السنوات القليلة الماضية. ففي الماضي، دأبت الشركات الصينية على تجنب أنواع التكنولوجيا المحلية، ومالت إلى شراء الأفضل، وقد جرت العادة أن يكون ذلك الأفضل أميركياً في غالب الأحيان، لكنها باتت اليوم، بعد أن منعتها واشنطن من ذلك، تبذل جهداً أكبر لتطوير قطاع رقاقات إلكترونية محلي مزدهر.

استطراداً، ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تحول الصين إلى قوة تكنولوجية عظمى يحمل في طياته دروساً بالغة الأهمية. والحال أن الصين، بعكس الغرب، ارتأت عدم جعل البحوث الراقية والعلوم المتقدمة قاعدة قطاعها التكنولوجي، مفضلة على ذلك مهمة أقل تألقاً تمثلت بتطوير قدراتها في التصنيع، بالتالي إذا كانت واشنطن جدية في مساعيها الهادفة إلى منافسة الصين تكنولوجياً، فلا بد من أن تسلط الضوء على آفاق أبعد بكثير من العلوم الريادية، فتتعلم كيف توظف قواها العاملة على غرار ما فعلته الصين، كي تتمكن من توسيع نطاق ابتكاراتها، وتطور منتجاتها بطريقة أفضل وفاعلية أكبر. واستطراداً، إذا أرادت الولايات المتحدة أن تستعيد موقعها الريادي في مجال التقنيات الناشئة، سيكون عليها اعتبار الصناعة جزءاً لا يتجزأ من التقدم التكنولوجي، وليس مجرد استعراض جانبي ومواز لمبادرات الابتكار والبحث والتطوير التي تنطوي على قدر أكبر بكثير من الإثارة.

المصدر : اندبندنت عربية

إغلاق