أكد د. أحمد السعيد في تقدمته لكتاب “مختصر تاريخ الصين” للباحث مايكل ديلون مؤسس مركز الدراسات الصينية المعاصرة بجامعة دورهام البريطانية، وترجمة نانسي محمد، أهمية الكتاب البحثية والعلمية وأيضًا الثقافية، حيث يسد فراغًا كبيرًا في المكتبة العربية عن الصين الحقيقية تاريخًا وواقعًا. لافتا إلى أنه رحلة شيقة إلى تاريخ خمسة آلاف عام، هو عمر الحضارة الصينية، ويتوقف كل فصل من فصوله عند مرحلة تاريخية كبرى للصين ويحلل أهم سماتها وإنجازاتها، وصولًا إلى تأسيس دولة الصين الحديثة عام 1949 ومرورًا بكل العصور الصينية القديمة، وأشهرها: دول تانج وسونج ويوان ومينغ وتشينغ، ثم فترة الجمهورية الصينية، وأخيرًا الصين الآن.
وحاول الكتاب الصادر عن دار العربي للنشر اختصار كل مراحل التاريخ الصيني داخله في شكل مبسط وسلس ومختصر، حيث يضم عشرين فصلًا استهلت بالأول الذي يتناول بدايات الأمة الصينية منذ عصر ما قبل الوحدة الصينية قبل خمسة آلاف عام تقريبًا، ويمهد الفصل الأول لتكوين الأمة الصينية التي تعود بعض آثارها لأكثر من عشرين ألف عام، كما أن هناك بعض النقوش الصخرية التي ما زالت باقية تعود لـ 11 ألف عام من التاريخ وتضم بعضها رسومًا لما سُمي بإله الشمس، وهو وجه يشبه قرص الشمس ويقترب في تصويره لآمون إله الشمس في الحضارة المصرية، وينتهي الكتاب بالفصل العشرين الذي يختم مرحلة ما قبل قيام دولة الصين الشعبية الجديدة، حيث يلخص الفصل العشرون قصة سقوط آخر الأسر الإقطاعية في الصين عام 1911 وقيام دولة جمهورية الصين الأولى حتى العام 1949.
وما بين الفصل الأول الذي يؤرخ لإنسان بكين البدائي الأول، والفصل العشرين الذي ينتهي ببداية وجود الصين المعاصرة أو ما نسميه إنسان بكين المعاصر، ينقلنا الكتاب عبر 18 فصلًا هم رحلة زمنية ممتعة تأخذنا مع كل مرحلة وفترة من فترات الصين الـ 24، فيحلل معالمها التاريخية ويسرد قصصًا عن حكامها وأشهر إنجازاتهم.
ورأى أحمد السعيد في مقدمته التي حملت “قراءة مستفيضة لصحوة التّنين تاريخ ربع العالم” أن الصين التي يتناولها الكتاب تمتلك من التاريخ بحسب إجماع المؤرخين خمسة آلاف عام متصلة، وإن كانت العلاقات التاريخية بين الصين والعرب تعود لأكثر من ألف عام حسب ما هو مدون بالسجلات التاريخية الصينية، إلا أننا في عالم اليوم لا نعرف الكثير عن هذا التاريخ المشترك، كما تندر الأبحاث والدراسات العربية التي تتناول بشكل مفصل تاريخ علاقات الصين والعرب، ويكاد ينحصر ذكر الصين في دراساتنا التاريخية عند المقولة المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم، “اطلبوا العلم ولو في الصين”، وأحيانًا يستدل بها على البُعد المكاني للصين، كما استوعبها بذلك الشاعر العربي الكبير نزار قباني وأوردها في قصائده كمكان يدل اسمه على البعد الجغرافي وكأنها في نهاية العالم بالنسبة لنا، أو فهمها آخرون على أن الصين كانت بلدًا ذا علم وحضارة ولكن لم يحدث أن استفدنا تاريخيًّا من علومها وحضارتها، وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك بعض الأبحاث الصينية الحديثة التي تُعيد سرد وتأريخ الحضارتين العربية والصينية لتصل لنتيجة أن أوروبا الحديثة قبل مئات السنين قد اعتمدت في نهضتها على منجزات الحضارتين الصينية والعربية، مثل الطب والكيمياء وعلوم النبات والحسابات الفلكية والزراعة وغيرها، وتشتهر الصين بأنها صاحبة أشهر أربعة اختراعات للبشرية، أو كما يسميها الصينيون “الاختراعات الصينية الأربعة الكبرى”: وهي البارود والبوصلة والورق والطباعة، والتي نُسبت بعد ذلك للحضارة الغربية وأصبحت من أهم أسباب نهضتها.
أشار السعيد إلى الظلم الواقع على الصين في دراستنا التاريخية وتخصصاتنا، وذلك على الرغم من التقارب الكبير بين حضارتنا وحضارتهم، حيث كلنا شرق وكلنا وقعنا فريسة الغزو الغربي والغربنة والاحتلال لسنوات، وها قد آن الأوان لنقترب أكثر من عالم التِّنين ونشاهده عن قرب علّنا نستخلص العظات والفوائد من الوقوف على تاريخ الصين التي تحولت في الأربعين عامًا الأخيرة، لمعجزة عالمية بكل المقاييس صنعت نهضتها بنفسها وشقَّت طريقها المتميز بمفردها وأثرت في عالم اليوم.
وبنظرة سريعة لمحتوى الكتاب نجد الفصل الثاني يحكي كيف تكوّن المجتمع الصيني واكتسبت ثقافته وولدت دولته الصغيرة في بدايتها، والفصل الثالث الذي يطوف بنا بين المدارس الفكرية الصينية الشهيرة والتي ما زالت باقية حتى الآن وبداية تكونها وانتشارها، ثم الفصل الرابع الذي يدخل بنا عصر الصين الموحدة التي أسستها دولة “تشن” وجاء منها اسم الصين الحالي، ثم الفصل الخامس الذي يتناول أهم الأسر الصينية الحاكمة وهي أسرة “هان” وقد جاء منها نسل 93% من الصينيين المعاصرين، حيث تتكون صين اليوم من 56 عرقية، تُعد “الهان” أكبرها بتعداد يتخطى المليار نسمة، ويتناول الفصل السادس الاستقرار الزراعي الذي تبعه منتوج ثقافي وفكري شكل الجزء الأكبر من حضارة وفكر الصين الحالية، ويدخل بنا الفصل السابع حقبة زمنية مليئة بالتشويق والإثارة حيث بداية الحروب الطويلة والنزاعات بين ممالك الصين وعصر الممالك الثلاثة، ويؤرخ الفصل الثامن لهذه المرحلة ثقافيًّا وسياسيًّا قبل أن ينتقل الفصل التاسع لسرد عصور الممالك التي سيطرت على الصين فيبدأ بعصر أسرة “سوي”، والفصل العاشر والأهم هو الذي يتناول العصر الذهبي للصين القديمة وعصر الازدهار الذي لم يحدث له مثيل في تاريخ الصين وهو عصر أسرة “تانج” والذي كانت فيه الصين إمبراطورية تصل لكل مكان تسقط عليه أشعة الشمس.
ولأن لكل نهضة سقوط، يسرد لنا الفصل الحادي عشر قصة انحدار الصين في نهايات عصر “تانج” وصعود أسرة “سونج” وهي مرحلة تشبه إلى حد كبير الدولة الوسطى في الحضارة الفرعونية، حيث يستعرض الفصل الثاني عشر قصص الممالك والدول التي جاءت بعد عصر “تانج”، ويلخص الفصل الثالث عشر آثار ومنجزات عصريّ تانج وسونج قبل أن ينتقل بنا الفصل الرابع عشر لحقبة مغايرة تمامًا من تاريخ الصين وهي حقبة لها علاقة وصلة بتاريخنا العربي حيث عصر أسرة “يوان” والتي هي المغول في تاريخنا، وفيها سقطت تمامًا حضارة الصينيين الأصليين “الهان” واستقرت الأمور في يد المغول والقادمين من آسيا الوسطى وهي بالمناسبة الفترة التي شهدت أكبر انتشار واستقرار للإسلام في الصين.
وفي الفصل الخامس عشر نتعرف على أحداث انتقال الحكم ليد الصينيين الأصليين مرة أخرى وتأسيس عصر أسر “مينغ” الشهيرة والتي كانت آخر أسرة إقطاعية من أصول صينية تحكم الصين والتي شهدت بدايات الانغلاق الصيني الكبير، غير أنها في بعض فتراتها شهدت أحداثًا دولية مهمة مثل رحلات البحار الصيني “تشينغ خه” إلى المنطقة العربية وهو يقود أسطولًا بحريًّا تجاريًّا من أكثر من ألفي سفينة محملة بالبضائع، ثم يسرد الفصل السادس عشر نهايات أسرة مينغ والحروب والصراعات التي شهدتها وبداية عصر أسرة تشنج آخر الأسر الإقطاعية وأكثرها إضرارًا بالصين، وهو ما يوضحه ويفنده الفصل السابع عشر حيث يتناول مراحل الخضوع التام للإقطاع وسيطرة الأفيون على أدمغة أباطرة الصين.
ثم يلخص الفصل الثامن عشر نتاج الفكر والفلسفة والثقافة والسياسة والمجتمع في عصري مينغ وتشينغ آخر العصور الإمبراطورية في الصين، وبالطبع يصل الفصل التاسع عشر لقصص حروب الأفيون المتتالية والسيطرة الأجنبية على الصين وتمرد الملاك والتذمر الشعبي الذي أدى في النهاية لفصلنا الأخير من الكتاب الذي يختتم بانتهاء الإقطاع وقيام جمهورية الصين الأولى في بدايات القرن العشرين، حتى نصل مع المؤلف لصين اليوم التي تأسست على يد “ماو” ورفاقه في الحزب الشيوعي في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1949.
وأكد د. السعيد أن تاريخ الصين الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام عبر 24 مرحلة زمنية شهد الكثير من الأحداث التي أثرت في البشرية ومسيرة تقدمها، كما كان لطريق الحرير بشقّيه البري والبحري، دور عظيم في التواصل الثقافي والإنساني بين البشر، وإن كانت المراجع التاريخية الغربية لم تستفِض في سرد تاريخ الصين ودورها المحوري في نهضة البشرية تاريخيًّا، إلا أنه من خلال المراجع الصينية الموثوقة يمكن الوصول إلى دلائل تاريخية واضحة تؤكد منجزات صينية على مرّ التاريخ، وبخاصة في العصر الذهبي التاريخي للصين وهو عصر أسرة “تانج” والذي كانت الصين فيه في وضع دولي يشبه وضعها الآن كمركز تجاري دولي ومصنع للعالم لا تفارق صفوف سفن البضائع موانئها، حتى أنه في مدن الجنوب الصيني ذات الموانئ الكبيرة كانت هناك أحياء كاملة تسمى “أحياء الأجانب”، يقطنها التجار الأجانب الذين قدموا للصين لاستيراد البضائع، حتى أنه في بعض متاحف الصين توجد بعض المعروضات اليونانية والرومانية التي تدل على تواصل مزدهر بين الصين والغرب قبل آلاف السنين، بل حتى في القاهرة وجدت بعض البقايا من الخزف الصيني التي يعود عمرها لأكثر من ألف عام.
وتساءل د. أحمد السعيد لماذا نحتاج لقراءة تاريخ الصين؟ وقال إن الإجابة على هذا السؤال تحددها أهمية الصين في عالم اليوم أولًا، فنحن نعرف الكثير والكثير عن تاريخ أوروبا وأميركا، ولكننا لا نعرف أقل القليل عن التاريخ الفعلي والواقعي للصين، والأمس كان عصر النهضة الأوروبية، أما اليوم فهو بلا شك بداية النهضة الصينية الكبرى التي أصحبت قوة عالمية يزداد دورها في النمو يومًا بعد يوم، ونحن في حاجة ملحّة للتعرف على تاريخ الأمة صاحبة هذه النهضة؛ لأننا فقط بمعرفة التاريخ يمكننا التنبؤ بالمستقبل، وبدراسة تاريخ أمة، يمكن الوقوف على حقائقها الثابتة وصفاتها الإنسانية التي لا تتغير بتغير الزمن.
والسبب الثاني الذي يستدعي التعرف على تاريخ الصين، هو أننا في عالم واحد وتجمعنا إنسانية واحدة ولكننا لا نعرف الكثير عن رُبع أفراد هذا العالم، بل يمكن القول إن حضارات آسيا وأميركا اللاتينية ليست محل اهتمام فردي أو أكاديمي في منطقتنا العربية، ومعرفة الصين عن طريق تاريخها هي خطوة من خطوات تحرر العقل العربي من هيمنة الثقافة الغربية ومحاولة لإعادة تقييم علاقاتنا بالآخر، أيًّا كان هذا الآخر، علّنا نتعلم من أخطاء علاقتنا بالغرب ونقيم مع الشرق (الصين والهند) علاقات متوازنة بلا تبعية ولا تنازلات ولا هيمنة لطرف على طرف، وهذا سيتحقق فقط حينما نتعرف على الآخر جيدًا، وليس هناك من وسيلة أفضل من التاريخ ليكشف لنا ماهية ذلك الآخر.
المصدر: موقع ميدل إيست أونلاين