مقالات وبحوث

التموضع السعودي… تكتيكي أم استراتيجي؟!

بقلم : أ.د. محسن محمد صالح 

لا يظهر حتى الآن أن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية (الذي أُعلن عنه في 10 آذار/ مارس 2023) يعكس تغيراً استراتيجياً سعودياً في تموضعها الإقليمي والدولي، غير أنه يعكس قراءة سعودية أكثر واقعية واحترافاً لوضعها الداخلي وإمكاناتها الذاتية، وللمتغيرات الإقليمية والدولية وانعكاساتها.

دوافع التموضع:

تظهر القراءة الواقعية للتطورات، خصوصاً في السنوات العشر الماضية، أن إيران تمكنت من تعزيز قوتها ونفوذها الإقليمي، في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وفي دعم المقاومة الفلسطينية، وأن مجموعة الإجراءات القاسية التي اتخذتها أمريكا وحلفاؤها ضد إيران، لم تمنع من تعاظم قوتها وتأثيرها في المنطقة.

وكان من الواضح أن الطريقة التي أدارت السعودية فيها خلافها مع إيران لم تؤدّ إلى النتائج التي سعت لتحقيقها. ثم إن إدارة السعودية لمعركتها مع الحوثيين في اليمن أدت إلى استنزافها عسكرياً واقتصادياً، خصوصاً أنها سعت إلى تحقيق معادلة تُسقط فيها الحوثيين، ولكنها تمنع في الوقت نفسه حلول أو عودة قوى الإصلاح والتغيير (التي أسقطت نظام علي عبد الله صالح) مكانهم؛ وهو ما ثبت فشله؛ وأدى إلى خسائر كبيرة ونفقات تصل، وفق مجلة التايمز اللندنية إلى 72 مليار دولار أمريكي سنوياً، أي نحو 216 مليار دولار في السنوات الثلاث الأولى للحرب.

وربما انخفض هذا المعدل لاحقاً، غير أن الاستنزاف ظلّ كبيراً، وهو ما استدعى رغبة سعودية في التهدئة، والبحث بجدية أكثر عن حلول سياسية.

وتأكد أيضاً أن سعي السعودية ودول الخليج لحماية أمنها في مواجهة إيران من خلال الغطاء الأمريكي (والتطبيع المعلن وغير المعلن مع الكيان الصهيوني) لم يثبت نجاحه، وأن الولايات المتحدة شريك لا يمكن الاعتماد عليه تماماً، وأن لأمريكا حساباتها الخاصة التي لا تتطابق تماماً مع الحسابات الخليجية؛ وأن “المتغطي بأمريكا عريان”!! وكان أحد أبرز الأمثلة الضربة العنيفة التي تلقتها المنشآت السعودية، التابعة لآرامكو، في 14 أيلول/ سبتمبر 2019، حيث استهدفت طائرات مسيرة وصواريخ كروز معمَلين أحدهما أكبر محطة تكرير نفط في العالم. وهي ضربة شكلت صدمة كبيرة للوعي السعودي الخليجي، خصوصاً وأن أمريكا لم تحرك ساكناً بعدها.

وقد لعب الاتجاه الأمريكي في عهد بايدن للتفاهم مع إيران، والتوصل إلى اتفاق نووي جديد، بغض النظر عن المخاوف والاعتبارات الخليجية، دوراً في قراءة المصالح العليا للسعودية بمنظور مختلف.

من ناحية أخرى، تلعب شخصية محمد بن سلمان، المتطلع لخلافة والده، وللظهور بمظهر الحاكم القوي الفعال، دوراً في إعادة التموضع السعودي.

إذ كان لبايدن وقيادة الحزب الديموقراطي تصريحات سلبية تجاه ابن سلمان خصوصاً بعد مقتل جمال خاشقجي، ونُشر تقرير يتهم ابن سلمان بالمسؤولية عن إصدار الأوامر بتصفيته؛ وهو ما أدى إلى بيئة من عدم الثقة والاحترام بين بايدن وابن سلمان.

إذ حرص ابن سلمان على إخراج نفسه من دائرة الاتهام وتعامَلَ مع بايدن بشكل أكثر تحفظاً بعد فوزه بالرئاسة الأمريكية، ليرسل رسالة مقابِلة للإدارة الأمريكية، وبأن الأمريكان بحاجة للتعامل بواقعية مع السعودية، وتخفيف الانتقادات تجاه قيادتها، والاعتراف بمكانة ابن سلمان باعتباره الحاكم الفعلي والملك القادم للسعودية. وهي واقعية عززتها الرغبة الأمريكية بإقناع السعودية بزيادة إنتاج النفط في ضوء الحرب الروسية الأوكرانية، وعدم السماح لروسيا بالاستفادة من ارتفاع الأسعار؛ في الوقت الذي كان ارتفاع الأسعار يجمع المصالح السعودية بالروسية.

ولعل محمد بن سلمان أراد من الرعاية الصينية للاتفاق التلويح للأمريكان بدرجة من الاستقلالية عنهم، وبقدرة النظام السعودي على التعامل مع بدائل أخرى عند الحاجة. ولعله أراد أيضاً إعطاء رسالة للبيئة السعودية الداخلية بالاستقلالية عن المظلة الأمريكية، في مواجهة اتهامات خصوم نظام الحكم بذلك.

ومن جانب آخر، فإن الصعود الصيني العالمي، واتجاه العالم نحو نظام متعدد القطبية، مع تراجع المكانة العالمية لأمريكا، عكس نفسه على القراءة السعودية لخريطة القوى الدولية. وقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعطي مزيداً من الدفع بهذا الاتجاه، وأظهرت الاحتياجات العالمية لإمدادات الغذاء والطاقة، واستعداد دول كبرى للتعامل التجاري بالعملات المحلية (الروبل الروسي، واليوان الصيني، والروبية الهندية…) اتجاهاً نحو مزيد من الانفكاك عن الهيمنة الأمريكية وعن هيمنة الدولار في التبادلات التجارية.

ثم إن اتجاه الكيان الصهيوني لمزيد من التطرف، وتشكيل حكومة إسرائيلية من غلاة اليمين الديني والقومي، دفع باتجاه تخفيف الاتجاه نحو التطبيع مع الكيان؛ وبالتالي تراجع الحاجة السعودية لهكذا علاقات؛ وهو ما سهّل فرص الوصول إلى تفاهمات مع إيران.

تموضع تكتيكي براجماتي:

في المقابل، فإن الاتفاق السعودي الإيراني، والتموضع السعودي الجديد، لا يعني تغيّراً استراتيجياً؛ وإنما قراءة واقعية للتغيرات دفعت إلى تموضع تكتيكي أو براجماتي متناسب مع المستجدات، دون أن يمس الخطوط الكبرى للسياسة السعودية. وهذا التموضع المحدود، جرى بعلم وموافقة الولايات المتحدة، وهو تموضعٌ قد يتسع أو يضيق بحسب تطورات الأحداث؛ وهو ما يجعل من السابق لأوانه تسميته تموضعاً استراتيجياً.

إن مظلة النفوذ الأمريكي في المنطقة ما تزال قائمة، بالرغم من تراجعها البطيء. وما تزال شبكة العلاقات والمصالح السعودية السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والأمنية تميل بشكل كبير لأمريكا وحلفائها وشركائها، وما زالت القوات السعودية تعتمد بشكل جوهري على السلاح الأمريكي والغربي بكافة أشكاله؛ من طائرات ودبابات ومدافع وأنظمة دفاعية وصواريخ وغيرها. كما أن معظم الأموال السعودية بما فيها صندوقها السيادي وودائع بنوكها موجودة في الولايات المتحدة والدول الغربية… وتحتاج السعودية سنوات عديدة للانفكاك عن هكذا علاقات عميقة ومتداخلة (حتى النخاع)، أو على الأقل التحوّل إلى وضعٍ استراتيجي يُمكّنها في لحظة من اللحظات من الاستغناء عن الشراكات الاستراتيجية مع أمريكا، دون أن تأبه كثيراً بالإجراءات الأمريكية المضادة المحتملة.

وفوق ذلك، فإن الصين نفسها ما زالت منشغلة بصعودها الاقتصادي العالمي، وليست مستعجلة ولا راغبة حالياً في التنافس السياسي والعسكري مع أمريكا أو الحلول مكانها في المنطقة؛ وإن كان منحنى سياساتها الخارجية أخذ يعطي مؤخراً ميلاً متدرجاً لتفعيل أدائها السياسي على المستوى الدولي. أما روسيا فإن أوضاعها وإمكاناتها الحالية لا تؤهلانها لملء الفراغ في المنطقة، حتى وإن رغبت في ذلك.

وفي الخلاصة، فقد سعت السعودية لحماية استقرارها، وتجنُّب الحرب، وتخفيف حالة الاستنزاف التي تعاني منها، وأدركت أنه لا بدّ من التعايش الواقعي مع إيران، وتهدئة حدة التوتر في المنطقة؛ مع المحافظة على خطوطها السياسية العامة، ودون تغيير لتموضعها الاستراتيجي.

أما على المدى المتوسط والطويل، فقد يُمثل الاتفاق السعودي الإيراني، برعاية صينية، إذا ما توفرت الإرادة الجادة، خطوة (في مسار طويل) نحو تنويع الشراكات الاستراتيجية، وتخفيف الاعتماد على الولايات المتحدة في إدارة المصالح العليا؛ وربما جعلها أحد الشركاء الاستراتيجيين؛ وليس الشريك الأساس، أو المظلة الوحيدة. وهو أمر من المبكر الحكم عليه.

المصدر : صحيفة أحوال العرب

إغلاق